المادة    
قال رحمه الله: [وحاصل الكل يرجع إلى أن الإيمان: إما أن يكون ما يقوم بالقلب واللسان وسائر الجوارح كما ذهب إليه جمهور السلف من الأئمة الثلاثة وغيرهم رحمهم الله كما تقدم، أو بالقلب واللسان دون الجوارح كما ذكره الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، أو باللسان وحده، كما تقدم ذكره عن الكرامية ، أو بالقلب وحده، وهو: إما المعرفة كما قاله الجهم أو التصديق كما قاله أبو منصور الماتريدي رحمه الله. وفساد قول الكرامية والجهم بن صفوان ظاهر].
إن الأقوال في هذه المسألة كثيرة، وحاصل هذه الأقوال: هو النظر إلى الإيمان من خلال أعضاء الإنسان، وماذا جعلته كل فرقة أو كل قول من هذه الأقوال بالنسبة لأعضاء الإنسان كاللسان أو القلب مثلاً؟ فمنهم من جعله على عضوين كالقائلين باللسان مع القلب، ومنهم من جعله على الجوارح جميعاً، وبهذا التقسيم نستطيع أن نعرف حقيقة الخلاف بين المذاهب، ونستطيع أن نعرف مدى الغلو عند المذاهب عندما نقول: المرجئة الغلاة أو الجهمية، فإن هذا من ضوابط معرفتنا؛ لأن هؤلاء الغلاة أو الجهمية يحصرون الإيمان في عضو واحد من أعضاء الإنسان: إما اللسان وإما القلب، والقلب فيه قولان: إما المعرفة، وإما التصديق، ثم الذين دونهم وهم مرجئة الفقهاء ؛ فيجعلون عضوين: الإقرار باللسان والتصديق بالقلب، أما أهل السنة والجماعة فيجعلون الإيمان شاملاً لأعضاء الإنسان، ومن تأمل الحقيقة يجد أن هذا القول هو الذي يجب أن يقال به، وليس شرعاً فقط، بل إن العقول السليمة لو تأملت لوجب أن تقول بما قال به أهل السنة والجماعة ؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما خلق العباد ليعبدوه وليوحدوه، وهذا التوحيد وهذه العبادة هي الإيمان الذي أمر أن يكون خالصاً له وحده، فقال تعالى: (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ))[البينة:5]، فحقيقة التوحيد هي: (( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))[الأنعام:162]، فيجب أن تكون حقيقة الإيمان -وهي مأخوذة من مفهوم الإسلام- هي الانقياد بكل الأعضاء لله تبارك وتعالى، قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ))[البقرة:208]، والسلم في الآية: هو الإسلام، أي ادخلوا بكليتكم -كما فسرها السلف- في الدين كله، وبالتالي لا ينقاد منك أعضاء وأعضاء أخرى لا تنقاد، ثم إن هذا الدين دين التوحيد، فلا يصح ولا يستقيم حال الإنسان إذا كانت أعضاء أو أجزاء منه تتحرك في اتجاه وأعضاء أو أجزاء تتحرك في اتجاه آخر؛ لأن حقيقة التوحيد والإيمان أن تكون النفس البشرية، أو أن يكون الإنسان قلباً وقالباً متجهاً اتجاهاً واحداً في طريق واحد وفي عمل واحد، أما أن يؤمن اللسان، أو يؤمن القلب وتكفر الجوارح، أو العكس، فهذا لا يستقيم ولا يعد إيماناً، إذاً حقيقة الإنسان أصلاً لا تكون إلا كذلك، ولذلك الإنسان من خلال عمله إنما يعمل وفق ما يعتقد، ومستحيل أن الإرادة الكاملة الجازمة في داخل الإنسان تريد شيئاً وتتحرك الأعمال الجوارح في اتجاه شيء آخر، وأقرب مثال إلى ذلك: ما نشاهده الآن من منتجات العلم، كالسيارات أو أي آلة من الآلات، إذ إنه يحترق الوقود فتتحرك الآلة، فهل يمكن أن يتحرك هذا في جهة وتكون حركة الجسم أو الهيكل بالعجلات في جهة أخرى؟! لا يمكن، وهكذا الإيمان فهو الطاقة والمحرك في القلب، والأعضاء تحقق وتنفذه، وهذه حقيقة الإنسان، فكيف يكون عضواً لله سبحانه وتعالى، أو يقال: إن هذا العضو مؤمن، أو يتمثل فيه الإيمان والأعضاء الأخرى ماذا تعمل؟!
  1. العمل وفق الإيمان والاعتقاد

    ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: (( كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ))[الإسراء:84]، أي: على نيته وقصده ومعتقده كما فسرها ابن عباس رضي الله تعالى عنه وغيره من السلف، فما من أمة ولا من فرد إلا وهذه حقيقته، حتى المنافق الذي ينافق ويدعي الإسلام كذباً، ويصلي ويصوم ويظهر أعمال الإسلام لكنه منافق، فهو يعمل على شاكلته مع أنه في الحقيقة غير مؤمن، ومع ذلك يعمل أعمال الإيمان، فكيف تكون القاعدة؟ القاعدة: أن كل إنسان إنما يعمل وفق ما يعتقد، فالمنافق يصلي ويصوم ويحج ويدعي الإسلام ويقرأ القرآن، فهو مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، فهذا يتناسب مع ما يعتقد، فهو يعتقد أنه يجب عليه أن ينافق، فيصلي ويصوم لمصلحته، وليحفظ دمه وماله وعرضه من الناس، ويعتبر نفسه واحداً من الناس فيكون عمله منسجماً مع نفاقه، فلو أنه كان مؤمناً حقاً لصلى وصام وحج خالصاً لله، ولو أنه كان منافقاً مستكبراً جاحداً حقاً لرفض أن يأتي بهذه الأعمال كما يرفض الكفار، لكن هو في نفسه يعتقد أنه إذا نافق وأظهر خلاف ما أبطن أن هذا هو الصحيح، وبالتالي فعمله موافق لاعتقاده، فهو يعمل على شاكلته، وكل إنسان كادح وكدحه وفق معتقده ونيته، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها )، فالمؤمن يغدو، والكافر يغدو، والعاصي يغدو، والطائع يغدو: فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، أي: إما أن يعتق، والمعتق هو المؤمن الصالح، أو يوبق، والموبق هو الطالح الفاجر الكافر.
    إذاً كلهم قد سار وعمل، وأيضاً باع نفسه ووقته، لكن بعضهم يعتق وبعضهم يوبق، وهذا هو الفرق فقط، فالإيمان والدين وكتب الله تبارك وتعالى التي أنزلها الله على عباده جاءت لكي تبين للإنسان كيف يعتق؟ وتحذره من أن يوبق، وهذا هو طريق الجنة، وقد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا نخطئ بإذن الله في شيء أبداً، كما بين لنا طريق النار حتى لا يخطئ أحد في ذلك أبداً بإذن الله، فهذا سبيل وهذا سبيل، وهذا طريق وهذا طريق، فإن أردت أن تعتق فهذا طريق، وإن أردت أن توبق فذاك الآخر، قال تعالى: (( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ))[الإنسان:3]، وقال: (( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ))[الكهف:29]، فالحق واضح جداً، فمن اختار الكفر وسلكه فإن همه وعزمه وإرادته وحياته، بل وماله ونفسه ستفنى فيه، وإن اختار الإيمان فهو كذلك، ومستحيل أن يؤمن القلب ويقول: إنه قد آمن وكمل إيمانه، وأصبح إيمانه كإيمان الملائكة أو الصديقين، كما قال بذلك المرجئة ، وتكون الجوارح في طريق آخر، فالقلب في طريق العتق والجوارح في طريق الإيباق، إذ لا يمكن ذلك أبداً، بل لا بد أن يتوحد الإنسان ويكون سيره واحد واتجاهه واحد وحركته واحدة، إذاً مذهب أهل السنة والجماعة ينطبق على حقيقة الإنسان، وأنه لا بد أن يسلم لله تبارك وتعالى بجوارحه وأعضائه جميعاً، والأحكام التي قسمها علماء الأصول بالنسبة للإنسان في أي أمر من الأمور هي: الواجب والمحرم والمستحب والمكروه والمباح، فهذه خمسة أحكام، والأعضاء ثلاثة: القلب واللسان والجوارح، ونضرب الثلاثة في الخمسة فينتج خمسة عشر، وابن القيم رحمه الله في أول المدارج بين مدار العبودية وقاعدة العبودية على هذه الخمسة عشر حكماً، فإذا هممت بقلبك فلا بد أن تنظر أحد الأحكام الخمسة، فإن كان واجباً تعتقده فتؤمن به، أو محرماً فيجب أن تجتنبه، مثل: الحسد أو الكفر أو التكذيب أو أي شيء من أعمال القلب، أو مستحباً أو مكروهاً أو مباحاً تفكر فيه، وكذلك القول باللسان، إذ إنه لا تخلو أقوالك من هذه الخمسة، وكذلك أعمال الجوارح، إذاً هذه الخمسة عشر تحصر كل نشاطك وكل عملك، فإما أن تعمل واجباً أو محرماً أو مستحباً أو مكروهاً أو مباحاً، ولا يخرج عملك عن هذا، وبذلك يتبين حقيقة التوحيد والإيمان، ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله في النونية :
    فلواحد كن واحداً في واحد            أعني طريق الحق والإيمان
    فلواحدٍ: وهو الله تبارك وتعالى الواحد الديان، كن واحداً: أي: لا تتشعب بك الآراء، وإنما وحد حياتك وإرادتك وجهدك وهمك وعزمك ونشاطك لله عز وجل، في واحد: وهو الصراط المستقيم.
    ولذلك الإنسان إذا تذبذب وتشتت في المسير، خطوة في طريق الخير، وخطوة في طريق الشر، فهذا يخشى عليه أن يختم له بخاتمة السوء والعياذ بالله، فقد يأتيه الموت وهو في طريق المعصية والضلالة والبدعة.
  2. الأعمال نتائج الأفكار

    إذاً فليكن الطريق هو الصراط المستقيم، وليكن العمل كله في هذا الخط لاحتمال أن خروجاً ما في لحظة ما تكون فيه النهاية، ولهذا الأوامر في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سيرة السلف الصالح بالثبات بالاستقامة، قال تعالى: (( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ))[هود:112]، وقال عليه الصلاة والسلام: ( قل آمنت بالله ثم استقم )، وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ))[فصلت:30]، ولذلك يجب على الإنسان أن يوحد حتى شعوره وفكره، وأن لا ينغمس حتى في الخيالات والأحلام؛ لأن الشيطان حريص على إغواء الإنسان، فإن لم يجد منه إلا هذه الخيالات أغرقه فيها وجاءه من طريقها، وقيمة الحياة لا يعرفها إلا من عرف الحقائق الإيمانية، ولذلك تحسر أحد السلف حينما مر بقوم يلهون ويلعبون وفي الغواية سادرون فقال: يا ليت الوقت يشترى؛ لأن المؤمن يضيق وقته حتى عن التفكير لانشغال فكره بما هو أهم، وغيره يضيع الأعمار والأوقات، ويفكر كيف يضيع حياته؟! لأنه ما عرف قيمة الحياة، وما عرف أن هذا العمر هو حقيقة الحياة، ولا يعرف ذلك إلا من عرف حقيقة الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وأنه يجب عليه أن يصبح والآخرة أكبر همه، وأن يكون كل عمله لله سبحانه وتعالى، حتى همه وفكره، والأعمال هي نتائج الفكر، وابن القيم رحمه الله قد ضرب مثالاً فقال: هذا الفكر كالرحى، فالرحى تدور باستمرار، وهذه من حكمة الله سبحانه، إذ إن أي إنسان لا يمكن أن ينقطع فكره وهو يقظان أو نائم، قال: إن وضع فيها حباً فماذا تطحن؟ لاشك أنها ستطحن حباً، وتكون النتيجة دقيقاً، وإن وضع فيها الحصى والبعر والرمل كانت النتيجة من جنس ما يوضع فيها، فعلى الإنسان أن يفكر في الآخرة، أو في لقاء الله سبحانه وتعالى، أو في أمر من أمور المسلمين، كأن يفكر في التواصي بالمرحمة، وكيف نرحم هؤلاء الناس؟ وكيف ندعو إلى الله؟ وبالتالي تكون النتيجة أعمالاً وثمرات طيبة لهذا التفكير، وهذا الخاطر عندما دار في هذا الشيء تحرك القلب فأنتج شيئاً ما، ولو لم ينتج إلا الدعاء، أي: أن تدعو الله أن يثبتك وأن يحفظك، فتكون قد ذكرت الله بقلبك وذكرت الله بلسانك أيضاً.
    وهكذا لا بد أن ينتج شيئاً ما، والنتيجة من جنس ما شغل وفكر فيه، ولذلك الذين أدركوا هذه الحقيقة من أعداء الله سبحانه وتعالى لماذا يحرصون على أن يكون الإعلام أربعة وعشرين ساعة لهواً وفساداً وغناء وإعلانات ودجلاً وشركاً ودعاية سياسية كاذبة؟ لقد ذهب الإنسان يسجل هذه المرئيات ويلتقطها، فمن أين يأتي الإيمان؟ ومن أين يأتي الخير؟ ومن أين تأتي مجرد فكرة أو حديث عن الآخرة؟! ولذلك يوم القيامة يقول الضعفاء للمستكبرين أصحاب هذه الوسائل: (( بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ))[سبأ:33]، فيحتج المستكبرون فيقولون: (( أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ ))[سبأ:32]، أي: ما صنعنا بكم شيئاً، بل أنتم الذين كفرتم وتمتعتم، فيجيب المستضعفون: (( بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ))[سبأ:33]، أي: مكركم ليلاً ونهاراً هو الذي ضيعنا وألهانا وأبعدنا عن الدين، وهذا لا ينفع المستضعفين: (( قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ))[غافر:48]، وقال: (( قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ))[الأعراف:38]، أي: الكل له ضعف، لكن المقصود أن الإنسان يحرص على نفسه وعلى أهله وعلى أسرته من هذا المكر الذي يدور ليل نهار يريد أن يدور بك وبعقلك، وتجد بعض الناس أمام بيت من الشعر يهلك ويسقط والعياذ بالله، وبيت من الشعر يثير في ذهنه شهوة أو شبهة، فأخذ يفكر فضعف يقينه، وانحلت عقد الإخلاص والإيمان والخشوع من قلبه، فأهمل في صلاته، وربما تركها، فمات كافراً والعياذ بالله، وبمنظر إلى امرأة رآها على الطبيعة أو صورة قد يضيع دين الإنسان كله والعياذ بالله، فيجب على الإنسان أن يحفظ هذه الجوارح، ولا يقول: الإيمان في القلب فقط! أو الإيمان على اللسان فقط! إذ إن حياتك كلها يجب أن تكون كالحارس المستوفز الذي يعلم أن الأعداء محيطون به من كل جهة، ولو غفل عن سلاحه لقضي عليه واحتلت قلعته الحصينة وهي القلب، فلتحصنه بذكر الله سبحانه وتعالى، ولا تترك مجالاً لشهوة أو شبهة تدخل إليك فتفسده فساداً قد لا يرجى صلاحه، أو تأتي بمرض لا يرجى برؤه.
    إن كل زعماء الضلال في العالم إنما كانت بداية الضلال جلسة مع مجرم منحرف ملحد، كتاب، أو مقالة، أو قرأها له، هكذا الانزلاق، واسأل مدمن الخمر: كيف وقعت الكأس الأولى، واسأل مدمن التدخين: كيف وقعت السيجارة الأولى؟ وبعد ذلك تتابع والعياذ بالله، وهكذا كل من توغل وتورط في الفساد وأوقعه الشيطان في شباكه، إنما يكون عن طريق أول مرة، ثم تراخى، ثم لم يبادر بالتوبة، لم يتذكر فإذا هو مبصر، فاستمر فتمادى، فهلك في النهاية، ومن هنا فالإيمان هو على كل الأعضاء، وفي كل الأوقات، وفي جميع الساعات، وفي جميع الأحوال، ولذلك لابد أن تكون مؤمناً حقاً، في الضراء والسراء، في الرخاء والشدة، في الفرح والترح، ولذلك ما ترك لنا هذا الدين العظيم، وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا وبين لنا كيف نرضي الله، وكيف نطيع الله تبارك وتعالى فيه، حتى الأفراح كيف تطيع الله تعالى في زواجك وفي الاحتفال به، بل وحتى في دخولك على أهلك، إن كل شيء قد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى في الأعياد بين لنا العيدين، وكيف نفرح فيهما، في أكلنا وفي طعامنا وفي منامنا، قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً. أي: أن كل شيء قد بينه صلى الله عليه وسلم فالحكم في كل شيء أمامه واضح من العدل والإيثار والحرص على الرعية والشفقة، والالتزام بأحكام الله سبحانه وتعالى، سواء على الشريف أو الضعيف، بل كل ما يحتاج إليه الحاكم فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم واضحة فيه، كذلك كل شيء يتعلق بالحياة الزوجية والحقوق بين الزوجين أوضحه الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه عملياً وبأوامره لهذه الأمة، والعالم كيف يجب أن يكون مع الأمة؟ أوضح ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواعظه وتعليمه ودعوته وبيانه للحق، والمربي المصلح والقائد العسكري كيف يعلم؟ كل ذلك وضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوضح كيف يتعامل مع جنده؟ ولأي شيء يقاتلون؟ وكيف يرفق بهم؟ وكيف يأمرهم؟ كل شيء جاء به هذا الدين وأوضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعظم الأدلة على أنه رسول من عند الله، وإلا فكيف في بشر واحد تتمثل هذه الصفات جميعاً على أعلى درجات الكمال؟! إن الأمم الكافرة التي لا تقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تؤمن به، تجعل لها قدوة في السياسية، وقدوة في القيادة، وقدوة في غير ذلك، وماذا تجد في الجوانب الأخرى؟ تجد حتى على تصورهم المحدود قائداً عسكرياً قدوة في القيادة، في الوطنية، القائد العسكري الوطني الذي يضحي بنفسه وبجنده من أجل الوطن إلى آخر ذلك، بينما في الجوانب الإنسانية والعائلية والعاطفية تجد السواد الكالح، فما من زعيم في أوروبا أو رئيس لـأمريكا إلا ويكتب عنه الكتاب الوجه الآخر، كيف الجانب الآخر؟ يقول لك: هذا الرئيس الذي أمام الناس حازم وصارم ويتكلم ويأمر، له جانب آخر من العلاقات الغرامية والقمار والفسق والتعري! إنه شيء عجيب جداً، فهو لو كان قدوة في شيء معين، فإن جوانب أخرى في غاية السم والقبح من الأخلاق الرذيلة، وحدث عنه ولا حرج، وآخر تجده قدوة في المال، فيكون تاجراً كبيراً استطاع أن ينهض بالشركة في كذا سنة، فيصبح مليونيراً ضخماً، وأخلاقه الشح والجشع وتجده الغشاش الكذاب، وكل الصفات القبيحة تجدها فيه، فهم يقولون: لا تتحقق قدوة متكاملة في غاية الكمال إلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه من حكمة الله جعل لخلفائه وورثته في هذا لكل منهم نصيب بقدر اجتهاده، فللعلماء نصيب بقدر اجتهادهم، أي: في موافقة سنته صلى الله عليه وسلم في العلم، وللحكام نصيب كما كان الخلفاء الراشدون في سيرته في الحكم والسياسة، وللقادة نصيب بمقدار متابعتهم له صلى الله عليه وسلم، فلكل أحد من الخير نصيب بمقدار ما يتابعه فيه، ولكل منهم خسارته وانحرافه وربما محقه دنيا وآخرة بمقدار تركه وتخليه عن ما جاء به هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعده عن التخلق بأخلاقه التي جعلها الله تعالى له: (( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ))[القلم:4].
    إذاً يقول الشيخ: مذهب الكرامية وكذلك الأشعرية أو جهم ، ومن وافقه واضح البطلان، أي: عندما تكون المذاهب أربعة كما قد قسمناها، فالمذهب الذي يجعل الإيمان على أعضائه الثلاثة هو مذهب السلف، أي: أهل السنة والجماعة ، والمذهب الذي يجعلها على عضوين: القلب واللسان هم المرجئة الحنفية ، والذي يجعله على عضو واحد هم الكرامية من جهة، والجهمية من جهة أخرى، والذي يقولون: ما في القلب، اختلفوا فرقتين: جهم و الصالحي قالوا: إنه مجرد المعرفة، والأشاعرة يقولون: التصديق، والشيخ يريد بالقسمة الرباعية أن يصل إلى استبعاد المذهبين الأخيرين، ثم يبدأ يقارن بين المذهبين الأوليين.
  3. التفريق بين المرجئة والمرجئة الغلاة في كلام السلف

    ونحن قبل ذلك نريد أن نقول: إنه بهذا التقسيم نعرف المرجئة . و المرجئة الغلاة ، فإذا ذكروا المرجئة في كلام السلف، وفي ترجمة الإمام البخاري في الصحيح ، وفي كلام الإمام أحمد، وفي كلام وكيع و سفيان و عبد الله بن المبارك ، و سعيد بن جبير و ثابت و أيوب وغيرهم من العلماء فالمقصود بهم: المرجئة الحنفية الذين يرون الإيمان على عضوين، فيخرجون عمل الجوارح، والمرجئة الغلاة الضابط والعلامة للمرجئة الغلاة أنهم يجعلون الإيمان على عضو واحد، فلذلك نحن لا نسميهم مرجئة إلا إذا قلنا: الغلاة؛ لأن العلماء في الغالب في القديم لا يقولون: مرجئة غلاة ، وإنما يقولون: المرجئة و الجهمية كما في كلام سفيان ، فمثلاً نقول: تقول مرجئة الدين كذا أو الإيمان كذا، وتقول الجهمية : الإيمان كذا، وما سموهم مرجئة ، وإنما سموهم الجهمية ، لكن نحن نقول: ما دام الاصطلاح قد انتشر وصار ظاهراً معلوماً متداولاً فنجعلهم المرجئة ، و المرجئة الغلاة ، إذاً إذا وضعنا هذا الضابط فـالماتريدية والأشعرية من المرجئة الغلاة ؛ لأنهم يقولون: الإيمان على عضو واحد وهو القلب فقط، والكرامية كذلك، فهم يردون على الكرامية ، والفخر الرازي له كتب وأكثر ما أمضى فيه الفخر الرازي وأفنى حياته ومجادلاته كانت مع الكرامية ، ومع ابن الهيصم وأتباعه؛ لأنهم عندهم مرجئة غلاة ، فهم يقولون: الإيمان هو قول اللسان، ونحن بهذا بالتقسيم -وهو تقسيم منطقي فطري سليم- تبين لنا أن الطائفتين غلاة معاً، فهؤلاء غلاة وهؤلاء غلاة، لكن هؤلاء جعلوه ما يقوم باللسان، وأولئك جعلوه ما يقوم بالقلب، أي: عمل واحد من أعمال القلب، وأولئك جعلوه نطقاً أو إقرار اللسان، فإذاً حتى الفخر الرازي -وهو إمام الأشعرية المتأخر، وكل من جاء من بعده آخذ منه- هو في الحقيقة من الغلاة وإن كان يرد أو يتخيل إليه أنه ينقد مذاهب المرجئة الغلاة وهم الكرامية، حيث إنه أمضى أكثر كتبه وأكثر عمره في الرد عليهم.
    إذاً بهذا نعرف المرجئة من المرجئة الغلاة ، وهذا ضابط سهل إن شاء الله، ويبقى المذهبان الأوليان: مذهب أهل السنة والجماعة ، ومذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، فنقول: المذهبان بينهما فروق، وهنا يأتي الإشكال الذي وقع فيه الشارح رحمه الله، وهو أنه قد يتخيل إلى من ينظر أن اللقاء سهل، وأن الخطب هين، وأن الخلاف ضيق، فيمكن أن يكون المذهبان كالمذهب الواحد، وأيضاً لو جاء آخر يمكن أن يبين أن بينهما فرقاً كبيراً، والشارح رحمه الله بما أنه حنفي، والإمام صاحب متن الطحاوية حنفي، وهما محبان للسنة ولمنهج السلف، يحاولان أو يريدان أن يظهرا أن المذهبين قريبان، وأن الخلاف ضيق، وإن كان الكلام في الأخير لا يسعف بهذا، لكن هي محاولة للتقريب، وهذه المحاولة تفيد أو تجدي في الرد على الغلاة فقط، في إلزام الغلاة الذين غلوا وانتسبوا مع ذلك إلى الإمام أبي حنيفة ، فيأتي واحد ماتريدي ويقول مثلاً: الإيمان هو ما في القلب فقط، فنقول له: أين بعدك عن الإمام أبي حنيفة ؟ فيقول: أبو حنيفة خالف ما جاء عن السلف، فيقال له: الخلاف بينه وبين السلف محدود أو ضيق في كذا، لكن أنت ابتعدت، لكن في الحقيقة لا بد أن يوضح الخلاف والفرق كما هو؛ لأن -وهذا ضابط- كل ذم ورد في كلام السلف الصالح للمرجئة أو الإرجاء فالمقصود به: الفقهاء الحنفية، وبهذا نستطيع أن نعرف أن السلف الصالح -وهم أفقه الناس، وأعلم الناس- ما اتخذوا هذا الموقف إلا والأمر أخطر من أن يكون مجرد خلاف صوري أو لفظي، لكن مع ذلك نحن نأخذ كلام الشيخ رحمه الله على ظاهره ونبين لماذا قال هذا؟